فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويدلّ لذلك تكرّر ذكر الطيّبات مع ذكر الحلال في القرآن، مثل قوله: {اليومَ أحلّ لكم الطيّبات} [المائدة: 5] وقولِه في الأعراف (157): {ويُحلّ لهم الطيّبات ويحرّم عليهم الخبائث} وعن الشافعي: الطيّبات: الحلال المستلذّ، فكلّ مستقذر كالوزغ فهو من الخبائث حرام.
قال فخر الدين: العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة، فإنّ أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات، وتتأكّد دلالة هذه الآيات بقوله تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة: 29] فهذا يقتضي التمكّن من الانتفاع بكل ما في الأرض، إلاُّ أنّه دخله التخصيص بحرمة الخبائث، فصار هذا أصلًا كبيرًا في معرفة ما يحلّ ويحرم من الأطعمة.
منها أنّ لحم الخيل مباح عند الشافعي.
وقال أبو حنيفة: ليس بمباح.
حجّة الشافعي أنّه مستلذّ مستطاب، والعلم بذلك ضروري، وإذا كان كذلك وجب أن يكون حلالًا، لقوله تعالى: {أحل لكم الطيبات}.
وفي «شرح الهداية» في الفقه الحنفي لمحمد الكاكي أنّ ما استطابه العرب حلال، لقوله تعالى: {ويحلّ لهم الطيّبات} [الأعراف: 157]، وما استخبثه العرب حرام، لقوله: {ويحرّم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157].
والذين تعتبر استطابتهم أهل الحجاز من أهل الأمصار، لأنّ القرآن أنزل عليهم وخوطبوا به، ولم يُعتبر أهل البوادي لأنّهم يأكلون ما يجدون للضرورة والمجاعة.
وما يوجد في أمصار المسلمين ممّا لا يعرفه أهل الحجاز رُدّ إلى أقرب مَا يشبهه في الحجاز اهـ.
وقال ابن عاشور:
وفيه من التحكّم في تحكيم عوائد بعض الأمّة دون بعض ما لا يناسب التشريع العامّ، وقد استقذر أهل الحجاز لحم الضبّ بشهادة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث خالد بن الوليد: «ليس هو من أرض قومي فأجدني أعافه» ومع ذلك لم يحرّمه على خالد.
والذي يظهر لي: أنّ الله قد ناط إباحة الأطعمة بوصف الطيّب فلا جرم أن يكون ذلك منظورًا فيه إلى ذات الطعام، وهو أن يكون غير ضارّ ولا مستقذر ولا مناف للدين، وأمارة اجتماع هذه الأوصاف أن لا يحرّمه الدّين، وأن يكون مقبولًا عند جمهور المُعتدلين من البشر، من كلّ ما يعدّه البشر طعامًا غير مستقذر، بقطع النظر عن العوائد والمألوفات، وعن الطبائع المنحرفات، ونحن نجد أصناف البشر يتناول بعضهم بعض المأكولات من حيوان ونبات، ويترك بعضهم ذلك البعض.
فمن العرب من يأكل الضبّ واليربوع والقنافذ، ومنهم من لا يأكلها.
ومن الأمم من يأكل الضفادع والسلاحف والزواحف ومنهم من يتقذّر ذلك.
وأهل مدينة تونس يأبون أكل لحم أنثى الضأن ولحم المعز، وأهل جزيرة شريك يستجيدون لحم المعز، وفي أهل الصحاري تُستجاد لحوم الإبل وألبانُها، وفي أهل الحضر من يكره ذلك، وكذلك دوابّ البحر وسلاحفه وحيّاته.
والشريعة من ذلك كلّه فلا يقضي فيها طبعُ فريق على فريق.
وَالمحرّمات فيها من الطعوم ما يضرّ تناوله بالبدن أو العقل كالسموم والخمور والمخدّرات كالأفيون والحشيشة المخدّرة، وما هو نجسَ الذات بحكم الشرع، وما هو مستقذر كالنخامة وذرق الطيوب وأرواث النعام، وما عدا ذلك لا تجد فيه ضابطًا للتحريم إلاّ المحرّمات بأعيانها وما عداها فهو في قسم الحلال لمن شاء تناوله.
والقول بأنّ بعضها حلال دون بعض بدون نصّ ولا قياس هو من القول على الله بما لا يعلمه القائل، فما الذي سوّغ الظبي وحرّم الأرنب، وما الذي سوّغ السمكة وحرّم حيّة البحر، وما الذي سوّغ الجَمَل وحرّم الفرس، وما الذي سوّغ الضبّ والقنفذ وحرّم السلحفاة، وما الذي أحلّ الجراد وحرّم الحلزون، إلاّ أن يكون له نصّ صحيح، أو نظر رَجيح، وما سوى ذلك فهو ريح.
وغرضنا من هذا تنوير البصائر إذا اعترى التردّد لأهل النظر في إناطة حظر أو إباحة بمالآنصّ فيه أو في مواقع المتشابهات. اهـ.

.قال الفخر:

في هذه الآية قولان:
الأول: أن فيها إضمارًا، والتقدير أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح مكلبين، فحذف الصيد وهو مراد في الكلام لدلالة الباقي عليه، وهو قوله: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}.
الثاني: أن يقال إن قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح مُكَلّبِينَ} ابتداء كلام، وخبره هو قوله: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وعلى هذا التقدير يصح الكلام من غير حذف وإضمار. اهـ.

.فصل: [معنى الجوارح]:

قال الفخر:
في الجوارح قولان:
أحدهما: أنها الكواسب من الطير والسباع، واحدها جارحة، سميت جوارح لأنها كواسب من جرح واجترح إذا اكتسب، قال تعالى: {الذين اجترحوا السيئات} [الجاثية: 21] أي اكتسبوا، وقال: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} [الأنعام: 60] أي ما كسبتم.
والثاني: أن الجوارح هي التي تجرح، وقالوا: أن ما أخذ من الصيد فلم يسل منه دم لم يحل. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح} عطف على الطيبات بتقدير مضاف على أن {مَا} موصولة، والعائد محذوف أي وصيد ما علمتموه، قيل: والمراد مصدره لأنه الذي أحل بعطفه على {الطيبات} من عطف الخاص على العام، وقيل: الظاهر أنه لا حاجة إلى جعل الصيد بمعنى المصيد لأن الحل والحرمة مما يتعلق بالفعل، ويحتمل أن تكون {مَا} شرطية مبتدأ، والجواب فكلوا، والخبر الجواب، والشرط على المختار، والجملة عطف على جملة {أُحِلَّ لَكُمُ} ولا يحتاج إلى تقدير مضاف.
ونقل عن الزمخشري أنه قال بالتقدير فيه، وقال تقديره لا يبطل كون {مَا} شرطية لأن المضاف إلى اسم الشرط في حكم المضاف إليه كما تقول غلام من يضرب أضرب كما تقول من يضرب أضرب، وتعقب بأنه على ذلك التقدير يصير الخبر خاليًا عن ضمير المبتدأ إلا أن يتكلف بجعل {مَا أَمْسَكْنَ} من وضع الظاهر موضع ضمير {ما علمتم} فافهم، وجوز كونها مبتدأ على تقدير كونها موصولة أيضًا، والخبر كلوا، والفاء إنما دخلت تشبيهًا للموصول باسم الشرط لكنه خلاف الظاهر، و{مّنَ الجوارح} حال من الموصول، أو من ضميره المحذوف، و{الجوارح} جمع جارحة، والهاء فيها كما قال أبو البقاء للمبالغة، وهي صفة غالبة إذ لا يكاد يذكر معها الموصوف، وفسرت بالكواسب من سباع البهائم والطير، وهو من قولهم: جرح فلان أهله خيرًا إذا أكسبهم، وفلان جارحة أهله أي كاسبهم، وقيل: سميت جوارح لأنها تجرح الصيد غابًا.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
والسدى.والضحاك وهو المروي عن أئمة أهل البيت بزعم الشيعة أنها الكلاب فقط {مُكَلّبِينَ} أي معلمين لها الصيد، والمكلب مؤدب الجوارح؛ ومضربها بالصيد، وهو مشتق من الكلب لهذا الحيوان المعروف لأن التأديب كثيرًا ما يقع فيه؛ أو لأن كل سبع يسمى كلبًا على ما قيل، فقد أحرج الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد من حديث أبي نوفل قال: «كان لهب بن أبي لهب يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك أو كلبك فخرج في قافلة يريد الشام فنزلوا منزلًا فيه سباع فقال: إني أخاف دعوة محمد صلى الله عليه وسلم فجعلوا متاعه حوله وقعدوا يحرسونه فجاء أسد فانتزعه وذهب به»، ولا يخفى أن في شمول ذلك لسباع الطير نظرًا، ولا دلالة في تسمية الأسد كلبًا عليه.
وجوز أن يكون مشتقًا من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال: هو كلب بكذا إذا كان ضاريًا به، وانتصابه على الحالية من فاعل {عَلِمْتُمُ}، وفائدتها المبالغة في التعليم لما أن المكلب لا يقع إلا على النحرير في علمه، وعن ابن عباس. وابن مسعود. والحسن رضي الله تعالى عنهم أنهم قرأوا {مُكَلّبِينَ} بالتخفيف من أكلب، وفعل وأفعل قد يستعملان بمعنى واحد {تُعَلّمُونَهُنَّ} حال من ضمير {مُكَلّبِينَ} أو استئنافية إن لم تكن {مَا} شرطية وإلا فهي معترضة، وجوز أن تكون حالًا ثانية من ضمير {عَلِمْتُمُ} ومنع ذلك أبو البقاء بأن العامل الواحد لا يعمل في حالين وفيه نظر، ولم يستحسن جعلها حالًا من {الجوارح} للفصل بينهما.
{مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} من الحيل وطرق التعليم والتأديب، وذلك إما بالإلهام منه سبحانه، أو بالعقل الذي خلقه فيهم جل وعلا، وقيل: المراد مما عرفكم سبحانه أن تعلموه من اتباع الصيد بأن يسترسل بارسال صاحبه.
وينزجر بزجره. وينصرف بدعائه. ويمسك عليه الصيد ولا يأكل منه.
ورجح بدلالته على أن المعلم ينبغي أن يكون مكلبًا فقيهًا أيضًا، ومن أجلية، وقيل: تبعيضية أي بعض ما علمكم الله. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله}
يجوز أن يكون عطفًا على {الطيّبات} عطف المفرد، على نيّة مضاف محذوف، والتقدير: وصيد ما علّمتم من الجوارح، يدلّ عليه قوله: {فكلوا مما أمسكن عليكم}.
فما موصولة وفاء {فكلوا} للتفريع.
ويجوز أن يكون عطف جملة على جملة، وتكون (ما) شرطية وجواب الشرط {فكلوا ممّا أمسكن}.
وخُصّ بالبيان من بين الطيّبات لأنّ طيبه قد يخفى من جهة خفاء معنى الذكاة في جرح الصيد، لاسيما صيد الجوارح، وهو محلّ التنبيه هنا الخاصّ بصيد الجوارح.
وسيُذكر صيد الرماح والقنص في قوله تعالى: {ليبلونّكم الله بشيء من الصيد تنالع أيديكم ورماحكم} [المائدة: 94] والمعنى: وما أمسك عليكم ما علّمتم بقرينة قوله بعدُ {فكلوا مما أمسكن عليكم} لظهور أن ليس المراد إباحة أكل الكلاب والطيور المعلّمة.
والجوارح: جمع الجارح، أو الجارحة، جرى على صيغة جمع فاعلة، لأنّ الدوابّ مراعى فيها تأنيث جمعها، كما قالت العرب للسباع: الكواسب، قال لبيد:
غُبْس كواسِبُ ما يُمَنّ طعامها

ولذلك تُجمعَ جمعَ التأنيث، كما سيأتي {فكلوا ممّا أمسكن عليكم}.
{ومكلِّبين} حال من ضمير {علّمتم} مبيّنة لنوع التعليم وهو تعليم المكلِّب، والمكلِّب بكسر اللام بصيغة اسم الفاعل مُعلّم الكلاب، يقال: مكلِّب، ويقال: كَلاَّب.
ف {مكلِّبين} وصف مشتقّ من الاسم الجامد اشتقّ من اسم الكلب جريًا على الغالب في صيد الجوارح، ولذلك فوقوعه حالًا من ضمير {علّمتم} ليس مخصّصًا للعموم الذي أفاده قوله: {وما علّمتم} فهذا العموم يشمل غير الكلاب من فُهود وبُزَاة.
وخالف في ذلك ابن عمر، حكى عنه ابنُ المنذر أنّه قصر إباحة أكل ما قتله الجارح على صيد الكلاب لقوله تعالى: {مكلّبين} قال: فأمّا ما يصاد به من البزاةِ وغيرها من الطير فما أدركتَ ذكاته فذكِّه فهو لك حلال وإلاّ فلا تَطْعَمْه.
وهذا أيضًا قول الضحّاك والسُدّي.
فأمَّا الكلاب فلا خلاف في إباحة عموم صيد المعلَّمات منها، إلاّ ما شذّ من قول الحسن وقتادة والنخعي بكراهة صيد الكلب الأسود البهيم، أي عامّ السواد، محتجّين بقول النبي صلى الله عليه وسلم «الكلب الأسود شيطان» أخرجه مسلم، وهو احتجاج ضعيف، مع أنّ النبي عليه السلام سمّاه كلبًا، وهل يشكّ أحد أنّ معنى كونه شيطانًا أنَّه مظنّة للعقر وسوء الطبع.
على أنّ مورد الحديث في أنَّه يقطع الصلاة إذا مرّ بين يدي المصلّي.
على أنّ ذلك متأوّل.
وعن أحمد بن حنبل: ما أعرف أحدًا يرخّص فيه (أي في أكل صيده) إذا كان بهيمًا، وبه قال إسحاق بن راهويه، وكيف يصْنع بجمهور الفقهاء.
وقوله: {تعلمونهن مما علمكم الله} حال ثانية، قصد بها الامتنان والعبرة والمواهب التي أودعها الله في الإنسان، إذ جعله معلَّمًا بالجبلّة من يومَ قال: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم} [البقرة: 33]، والمواهب التي أودعها الله في بعض الحيوان، إذ جعله قابلًا للتعلّم.
فباعتبار كون مفاد هذه الحال هو مفاد عاملها تتنزّل منزلة الحال المؤكّدة، وباعتبار كونها تضمّنت معنى الامتنان فهي مؤسّسة.
قال صاحب «الكشاف»: وفي تكرير الحال فائدةُ أنّ على كلّ آخذ عِلمًا أن لا يأخذه إلاّ من أقْتَللِ أهلِه علمًا وأنْحَرِهم دِراية وأغوصِهِم على لطائفه وحقائقه وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكبادَ الإبل، فكم من آخذ عن غير متقن قد ضيّع أيّامه وعَضّ عند لقاء النَّحارير أنامله. اهـ.